نقلا عن جريدة "الوطن" الكويتية
نبيل الفضل
(سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا
حوله).
إذا فالمسجد الأقصى موجود قبل البعثة المحمدية، فمن بناه؟! لقد بناه إسرائيل،
وهو سيدنا يعقوب بن اسحاق بن ابراهيم عليهم السلام، وما بناه إسرائيل في تلك
البقعة إلا بإيحاء من ربه لأسباب إلهية يرمز إليها القرآن بالبركة ويشرحها
المفسرون بسذاجة بأنها بركة الزرع والشجر، التي لو قسنا عليها لكانت كاليفورنيا
أكثر بركة من بيت المقدس بمرات.
نعود إلى المسجد الأقصى فنقول: إنه كان مكانا مقدسا للعبادة منذ بنائه، وبسببه
بنيت مدينة أورشيلم التي نسميها اليوم مدينة القدس، وهي تسمية ليست بإسلامية
قديمة وإنما استحدثت في عصور لاحقة على عهد الرسالة، فقد كان يطلق عليها مسمى
العرب للمسجد الأقصى وهو مسمى بيت المقدس. ومنذ عهد سيدنا يعقوب ظلت القدس
عاصمة للدويلات اليهودية التي توالت منذ عهده، وظل يحكمها ملوك بني إسرائيل
وأنبياؤها كسيدنا داود وابنه سليمان وغيرهما ممن توالى بعدهما وقبلهما، حتى
سقطت المدينة مدمرة على يد نبوخذ نصر الذي غزاها من بلاد ما بين النهرين،
فدمرها ودمر المعبد الذي بناه سيدنا سليمان مسجدا.
والمسجد باللغة يعني المكان ـ أي مكان ـ يسجد فيه العباد لله، وهي كلمة لا تختص
بمساجد المسلمين فقط.
ولقد توالى الغزاة على القدس منذ ذلك العهد، فمن الآشوريين الى الاغريق الى
الرومان الى العرب المسلمين الى الصليبيين الى العرب الى الترك الى الانجليز
الى الدولة الإسرائيلية الحديثة. والقدس بمسجدها الأقصى مدينة مقدسة عند
اليهود، ذلك أمر لا مجال للجدال فيه، وهي مقدسة بالنسبة للمسيحية لأن سيدنا
المسيح قد تم صلبه ودفنه ثم قام حسب معتقدهم. والمسيحية واليهودية أقدم من
الإسلام بقرون وقرون. أما قدسية القدس ومسجدها الأقصى في الإسلام فهي حديثة
العهد جدا جدا. فكتب الحديث لا تذكر للرسول صلى الله عليه وسلم حديثا يطالب فيه
بتحرير المسجد الأقصى أو فتح مدينة القدس أو غزو فلسطين.
وكتب التاريخ لا تذكر أن أحدا من الخلفاء الراشدين قد فكر أو ادعى قدسية القدس
أو تفضيلها على يثرب عاصمة الخلافة.
وأما فتح القدس فقد تم كما تم غيره من فتوح شملت فارس والعراق والشام ومصر، وما
بيت المقدس إلا مدينة في خضم جغرافيا الفتوح الإسلامية الأولى، فسيدنا علي بن
أبي طالب اختار الكوفة عاصمة له بعدما ترك المدينة المنورة ولم يفكر بالقدس. ثم
أتت الخلافة الأموية فاختارت دمشق عاصمة لخلافتها ولم تختر القدس. وحتى
عبدالملك بن مروان الذي بنى مسجد قبة الصخرة في نطاق المسجد الأقصى، فهو قد فعل
ما فعل محاولة لتوجيه حجاج أهل الشام إلى القدس بدلا من مكة، التي كان قد انفصل
في حكمها ابن الزبير، وذلك خوفا من أن يستهويهم ابن الزبير ويؤلبهم عليه. ولقد
استصدر عبدالملك فتاوى من رجال الدين مدعومة بأحاديث تسمح بالحج إلى بيت المقدس
بدلا من مكة، وقد حج أهل الشام إلى القدس لمدة ثلاث سنين حسب كتب التاريخ!!
نعود للخلافة الإسلامية، فنجد ان الخلافة العباسية قد استقرت في بغداد وبعدها
سامراء، ولم يخطر ببال أي خليفة من الأمويين أو العباسيين أن يتخذ القدس عاصمة
له. ثم تلا ذلك دويلات ودول. فالدولة الحمدانية اتخذت حلب عاصمة ولم تفكر في
القدس. وكذلك الدولة الفاطمية والدولة البويهية وغيرهما، حتى استقر الأمر
للدولة العثمانية فاختارت هضبة الأناضول ومدنها عواصم لها ولم تفكر في القدس!!
حتى الدولة الأردنية الهاشمية التي نشأت بعد الحرب العالمية الأولى بزعامة
أشراف الحجاز من بني هاشم، اتخذت عمان عاصمة للدولة ولم تفكر في القدس رغم انها
كانت تحت حكمها. فأين كانت قدسية القدس التي ندعيها اليوم في أبواقنا
الإعلامية؟!
ومنذ أن سقطت القدس في يد المسلمين في خلافة عمر رضي الله عنه، تداعت الشعوب
المسيحية من أقصى أصقاع أوروبا لتحرير بيت المقدس بسبب قدسيتها عندهم، وقد
فعلوا لاحقا. في حين ان التاريخ لا يذكر أن أحد الخلفاء قد فكر أو أعلن نيته
لتحرير القدس من يد الصليبيين. فالقدس بالنسبة لهم لم تكن سوى مدينة مثل سواها
من المدن يحتلونها اليوم وقد يحتلها غيرهم غدا وقد يسترجعونها بعد عام، وهكذا.
حتى تلك الفرحة المبهرجة بتحرير صلاح الدين للقدس، لو نظرنا في حقيقتها لوجدنا
ان صلاح الدين لم يخرج بنية تحرير القدس، وانما لمحاربة جيوش دويلات وممالك
فلسطين، مثل مملكة حيفا ومملكة عكا ومملكة صور ومملكة بيت المقدس، التي كانت
تغير على قوافل الحجاج وتحرم الدولة الأيوبية من ريع تجارة الحج. وهي حرب
تجارية توسعية لا علاقة لها بالدين ولا بالقدسية، فلما حطم تلك الجيوش في حطين
سقطت تلك الممالك ومن بينها مملكة القدس، فكانت معاملة صلاح الدين لها ولأهلها
نفس معاملة أي فاتح لأي مدينة، فلا قدسية ولا تقديس. بل ان ابن أخيه قد تفاوض
مع الفرنسيين عند غزوهم مصر على ارجاع القدس لهم عن طيب خاطر، فأين القدسية؟!
الآن ليس لدينا أي تحفظ على من يطالب بتحرير القدس كمدينة عربية، وهي في ذلك
حالها حال لواء الاسكندرونة وحيفا وسبتة ومليلة، اما محاولة تغليف تلك المطالبة
بقدسية دينية فهذا ما لا نجد له أي مبرر سوى تسويق فكرة التحرير وإلهاب مشاعر
العامة بأكاذيب ليس لها محل من التاريخ.
فمثلما رفع سفاح ملحد علم العراق وكتب عليه «الله أكبر» لتضليل الناس، فقد رفع
بعض دعاة القومية والعربية ممن لا دين له، شعار قدسية القدس استدرارا لتعاطف
الاسلاميين والمسلمين العرب حول قضية فلسطين التي هي قضية قومية وليست قضية
دينية. وحاول القوميون خلق موقع ديني في الإسلام لمدينة القدس وهو موقع لا
يثبته التاريخ. ونحن نتكلم بالتاريخ لا بالأحلام والأوهام والانطباعات المضللة،
غير ان غيرنا ما أن يشتهي شيئا حتى يلبسه رداء إسلاميا لا يستحقه ثم يقوم يطبل
ويتصايح ويشق الجيوب.
أعزاءنا
كثير من الإخوة الإسلاميين يقولون إن القدس هي أولى القبلتين وثالث الحرمين!.
أما ثالث الحرمين فمصدرها الحديث الذي استخرجه علماء الشام لعبدالملك بن مروان
كي يحج الناس إلى القدس بدلا من مكة. وأما انها أولى القبلتين، فقد نسخ هذا
الأمر كما نسخ حكم الخمر فمن غير الجائز شرعا أن يعتد به. عسى ما رفعنا سكركم!!